سيرة رسول الله ﷺ من أعذب الكلام الذي يطرق الأسماع. والحديث عن سيرة رسول الله ﷺ باستجلاء محاسنه، وذكر المعاني الموجبة لمحبته ﷺ، من أعظم القرب وأجل الطاعات، لأن سيرة رسول الله ﷺ تنشئ محبته. ومحبته ﷺ عقد من عقود الإيمان، لا يتم إلا بها.
سيرة رسول الله ﷺ: 3 إن محمدا قد قتل! “التفريغ النصي” للشيخ سعيد الكملي
كهان العرب وتنبؤاتهم بميلاد النبي ﷺ
قد تقدم لنا في سيرة رسول الله ﷺ أن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب كانوا قد تحدثوا بأمر رسول الله ﷺ حين قرب مبعثه وظهر زمانه. فأما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، فكما تقدم لنا فيما مضى، أن ذلك أخذوه مما كان في كتبهم. وأما الكهان من العرب، فإنهم تلقفوا ذلك مما أتتهم به الشياطين، مما كانوا يسترقون من السمع، إذ كانوا لا يُحجبون عن استراق السمع. ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب، وكان مرجوعًا إليها في حكمهم.
كيفية استراق الشياطين للسمع وإلقائه لاوليائهم من للكهان
روى مسلم في الصحيح عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب رسول الله ﷺ، من الأنصار، قال: بينما نحن جلوس ليلة مع رسول الله ﷺ إذ رُمي بنجم فاستنار. فقال ﷺ: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رُمي بمثل هذا؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم. كنا نقول: وُلِدَ الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم.
فقال ﷺ: «فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرًا، سبح حملة العرش، فسبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، فيستخبر بعض أهل السماوات بعضًا حتى يبلغ الخبر أهل هذه السماء الدنيا. فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون في ذلك ويزيدون». وفي رواية: يقذفون، وفي رواية: يرقون، وهي بمعنى يزيدون فيه. فهذا يدل على أن الجن كانت تسترق السمع ولم تكن تحجب عن ذلك، وما خطفوه مما استرقوه يقذفون به إلى أوليائهم ويزيدون على ذلك.
نهاية استراق الشياطين للسمع
فلما تقارب مبعث رسول الله ﷺ، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينهم وبين المقاعد التي كانوا يجلسون فيها لاستراق السمع. وعلموا أنه إنما حيل بينهم وبين ذلك لأجل أمر قد حدث. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق النبي ﷺ في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ… “عكاظ كان أكبر مواسم العرب في الجاهلية، كان هو وادٍ فيه نخل بين مكة والطائف، هو إلى الطائف أقرب منه إلى مكة.” وكانوا يقيمون به جميع شوال يتبايعون ويتفاخرون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم من الشعر. وقد كثر ذلك في أشعارهم. قال حسان رضي الله عنه: “سأنشر إن حييت لكم كلامًا * ينشر في المواسم من عكاظ”.
فانطلق رسول الله ﷺ مع طائفة من أصحابه قاصدين سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب. فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء ورُمينا بالشهب. فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا أمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتنظروا هذا الذي حال بينكم وبين أمر السماء. فانطلقت الجن يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمن جملة أولئك قوم منهم طائفة من الجن انطلقوا جهة تهامة، فرأوا النبي ﷺ وهو مع أصحابه في بطن نخلة يصلي بهم صلاة الفجر. فاستمعت الجن، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد.
فانزل الله سبحانه على نبيه:֎ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) ֎ الى ان يقول ربنا سبحانه حاكيا كلامهم: ֎ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلْءَانَ يَجِدْ لَهُۥ شِهَابًا رَّصَدًا ֎.
فهذا يدل على أنهم كانوا يسترقون السمع، فيأتون به إلى كهانهم. فمن جملة ما أتوا به خبر رسول الله ﷺ.
قصة إسلام الكاهن سواد بن قارب من رؤيا الجن
مما رواه البخاري عن إسلام سواد بن قارب
من ذلك ما روى البخاري في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: أظنه كذا إلا كان كما يظن. بينما هو جالس إذ مر رجل جميل، فقال عمر رضي الله عنه: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو كان كاهنهم، عليَّ به. فدعي له الرجل فسأله عن ذلك، فقال: ما رأيتك اليوم استُقبل به رجل مسلم. فعزم عليه، فقال: قد كنتُ كاهنهم في الجاهلية. فقال له عمر: ما أعجب ما جاءتك به جنيتك. فقال: بينما أنا ذات يوم في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع. فقالت: ألم ترَ الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاس وأحلاسها؟ قال عمر رضي الله عنه: صدق، بينما أنا عند آلهتهم ذات يوم إذ جاء رجل بعجل فذبحه. فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه، يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله.
فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. فقال: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله. قال: فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي. وحديث البخاري ليس فيه تسمية الرجل الذي خاطبه عمر رضي الله عنه، وإسمه سواد بن قارب. وأسلم، وسبب إسلامه ما ذكر مما جاءته به جنيته.
مما رواه الحاكم والطبراني وأصحاب السير عن إسلام سواد بن قارب
وهذا الحديث رُوي بأبسط مما رواه البخاري في الصحيح، رواه الحاكم في مستدركه والطبراني، ورواه أصحاب السير بأسانيد كلها لا تخلو مما قال، لكن يُعضد بعضها بعضًا ويقوي بعضها بعضًا، كما قال ابن حجر. وحاصلها أن عمر رضي الله عنه مر به ذات يوم سواد بن قارب، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، أتعرف هذا المار؟ قال: لا، من هو؟ قال: هذا سواد بن قارب، رجل من أهل اليمن، له فيهم شرف وموضع. هذا الذي أتاه رَئِيُّه بظهور رسول الله ﷺ.
قال عمر: عليَّ به، فدُعي له. فقال عمر: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. فقال: أنت الذي أتاك رَئِيُّك بظهور رسول الله ﷺ؟. قال: نعم. فقال: فما زلت على ما كنت عليه من كهنتك؟ فغضب سواد بن قارب، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما استقبلني أحد بمثل هذا منذ أسلمت. فقال له عمر: يا سبحان الله، والله لما كنا فيه من الشرك أشد مما كنت عليه من الكهانة. أخبرني بإتيانك رَئِيُّك بظهور النبي ﷺ.
الرؤيا الأولى لسواد بن قارب
فقال: نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات يوم بين اليائم والنقظان، إذ أتاني فضرب رجلي، وقال: يا سواد بن قارب، قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بُعث نبي من لؤي بن غالب يقول: لا إله إلا الله. ثم أنشأ يقول:
“عجبت للجن وتحساسها * وشدها العيسى بأحلاسها”
“تهوي الى مكة تبغي الهدى * ما مؤمن الجن كأرجاسها”
“فارحل الى الصفوة من هاشم * وأسمو بعينيك الى رأسها”
“قال سواد” فلم أرفع بقوله رأسا وقلت له دعني فإني امسيت ناعسا.
الرؤيا الثانية لسواد بن قارب
قال: فلما كانت الليلة الثانية، أتاني وأنا نائم، فضرب رجلي، وقال: ألم أقل لك: قم يا سواد بن قارب، وافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بُعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وعبادته. ثم أنشأ يقول:
“عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيسى بأقتابها”
“تهوي الى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها”
“فارحل الى الصفوة من هاشم * ليس قدامها كأذنابها”
قال: فلم ارفع بمقالته رأسا.
الرؤيا الثالثة لسواد بن قارب
فلما كانت الليلة الثالثة، أتاني فضرب رجلي، وقال: قم يا سواد بن قارب، وافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بُعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته. ثم أنشأ يقول:
“عجبت للجن وتجآرها * وشدها العيسى بأكوارها”
“تهوي الى مكة تبغي الهدى * ما مؤمن الجن ككفارها”
“فارحل الى الصفوة من هاشم * بين روابيها واحجارها”.
قال: فَأُلْقِيَ في نفسي حب الإسلام. فلما أصبحت، شددت الرحلة على ناقتي ومضيت بها إلى مكة. فلما كنت ببعض الطريق، قيل لي إن رسول الله ﷺ قد هاجر إلى المدينة. قال: فأتيت المدينة، فسألت عنه. فقيل لي: هو جالس في المسجد. فأتيت المسجد، فعقلت الناقة، ودخلت، فقلت: يا رسول الله، اسمع مقالتي. فقال لي أبو بكر: ادنه، ادنه. قال: فلم يزل يدنيني حتى جلست بين يديه ﷺ. فقال: هات، وأخبرني بإتيانك رَئِيُّك. فقال: فقلت:
“اتاني نجي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد بلوت بكاذب”
“ثلاث ليالي قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب”
“فشمرت عن ذيل الازارة * ووسطت بي الذعلب الوجناء بين السباسبي”
“فأشهد أن الله لا رب غيره * وانك مأمون على كل غائبي”
“وانك أدنى المرسلين وسيلة * الى الله يا ابن الاكرمين الأطايب” (صلى الله عليه وسلم)
“فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب”
“وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * سواك بمغن عن سواد بن قاربي”.
مولد رسول الله ﷺ
قصة شق صدر النبي ﷺ مما رواه مسلم في الصحيح
**فلما وُلِدَ ﷺ، أَخْبَرَتْ أُمُّهُ آمنة جَدَّهُ عبد المطلب، لأنَّ أَبَاهُ عبد الله كان قد مات. “قالت طائفة من العلماء إنه مات وهو حمل في بطن أمه ﷺ، وقال الأكثرون، بل مات وهو في المهد”. فبعث عبد المطلب يلتمس له المراضع على عدة القوم يومئذ. فاستُرضعت له امرأة من بني سعد يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب. ولما كان عندها، حصل الشق الأول لصدره ﷺ.
روى مسلم في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أَتَاهُ جبريل وهو يلعب مع الغلمان. فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج قلبه، فاستخرج منه علقةً، ثم قال: “هذا حظ الشيطان منك”. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده مكانه. فجاء الغلمان يسعون إلى أمه ﷺ “يعني ظئره حليمة” فقالوا: إن محمداً قد قُتل ﷺ. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: فكنت لا أزال أرى أثر ذلك المخيط في صدره ﷺ.**
قصة شق صدر النبي ﷺ مما رواه أحمد والحاكم
وروى احمد والحاكم ان رجلا سأل رسول الله ﷺ، قال كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ فقال ﷺ:
«كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهَم لنا، ولم نأخذ معنا زادًا. فقلت: يا أخي، اذهب فاتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي، فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران. فقال أحدهما: أهو هو؟ قال: نعم. قال: فاقبلا يبتدراني. فأخذاني فبطحاني القفا، ثم شقَّا بطني فاستخرجا قلبي، فشقاه. فاستخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه: خِطه واختم عليه بخاتم النبوة. ثم قال أحدهما للآخر: اجعله في كفة، واجعل ألفًا من أمته في كفة. فجعلت أنظر إلى الألف فوقي، فأشفق أن يخروا علي. فقال أحدهما للآخر: لو وُزنت به أمته كلهم لوزنهم. ثم انطلقا وتركاني.
ففرقت فرقا شديدا. ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتها بالذي رأيت. فاشفقت أن يكون قد أُلتبس بي. فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيرًا، ثم جعلتني فوق الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا أمي. فقالت: أديت أمانتي وذمتي. وأخبرتها الخبر. فلم يرعها هذا الذي حدثت به حليمة. وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت له قصور الشام.
وهذا الذي يقول فيه ربنا: ֎قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين֎. وهذا الذي يقول فيه ربنا: ֎يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا֎
والله أعلم.