تعني الشفقة على الذات إظهار الكرم واللطف تجاه نفسك، خاصة عندما تكون الأوقات صعبة
لمعرفة ما هو التعاطف مع الذات، يجب علينا أولاً أن نبدأ بفهم معنى “الرحمة”. الرحمة تعني الرأفة والعطف، وهي تشير إلى الشعور بالشفقة تجاه الآخرين، خاصة في حالات الضعف أو المعاناة، كما أنها لا تقتصر فقط على الآخرين، بل تشمل أنفسنا أيضًا. النبي محمد ﷺ قال: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارحَمُوا أهلَ الأرضِ يَرْحْمْكُم مَن في السّماء” وقال ﷺ “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ“. من هنا ندرك أن التعاطف يعني القدرة على فهم واستشعار مشاعر الطرف الآخر، وهو يتضمن التعرف على تجاربه، والألم الذي يشعر به، والفرح الذي يعيشه، والرغبة في مساعدة هذا الشخص. كرد فعل، ربما تكون قد عزيته وأخبرته أن ما يشعر به أمر طبيعي، وأن الألم مؤقت، وأن هذا جزء من التجربة الإنسانية.
الآن تخيل أنك الشخص الذي يعاني وأنك تمارس نفس هذا الموقف من القبول واللطف وعدم الضغط على نفسك وجلدها. هذا هو مفهوم التعاطف مع الذات! عندما نتحدث عن التعاطف مع الذات، فإن الأمر يتعلق بأن نعامل أنفسنا بلطف ورأفة كما نفعل مع الآخرين. يعني ذلك أن نتقبل مشاعرنا، حتى لو كانت سلبية، وأن نوفر لأنفسنا الدعم والرعاية في الأوقات الصعبة.
حددت الأبحاث المكثفة، ثلاثة أجزاء للتعاطف مع الذات: اللطف بالذات، والإنسانية المشتركة، واليقظة.
اللطف بالذات
“إنَّ اللطف بالذات من محاسن الأخلاق التي حثَّ عليها ديننا الحنيف. فكما أننا مأمورون بالإحسان إلى الآخرين ورعايتهم في ضعفهم ومعاناتهم، فإننا مطالبون أيضًا بأن نكون رُفقاء بأنفسنا لطفاء بها، مُتجاوزين عن أخطائها، متفهمين لقصورها البشري. فالنفس أمانة بين أيدينا، وعلينا أن نسعى لتهذيبها وتزكيتها باللين والرفق، لا بالقسوة واللوم الذي لا يزيدها إلاَّ ضعفًا ويُثقل كاهلها.
إنَّ عكس اللطف بالذات هو جلد الذات وانتقادها، وهذا سلوك مُهلك يُفضي إلى اليأس والقنوط، ويُعيق مسيرتنا نحو التقدم. فبدلًا من ذلك، لنتذكر دائمًا أنَّ الله تعالى غفور رحيم، وأنَّ رحمته وسعت كل شيء، فلماذا نقسو على أنفسنا ونحن نرجو رحمته؟
عندما نمر بتجربة صعبة، غالبًا ما نجد صعوبة في التعامل بلطف مع أنفسنا. إحدى الطرق لممارسة اللطف مع الذات هي أن تتخيل أن صديقًا مقربًا لك يواجه نفس التحدي. ما الذي ستقوله له؟ كيف ستدعمه؟ بكل تأكيد ستمنحه كلمات التشجيع والتفهم التي يستحقها.
الآن، إستحضر مشاعر التعاطف والرحمة تجاه هذا الصديق، ثم وجهها إلى نفسك. تخيل أنك تتلقى هذه الرسالة المليئة بالدعم، استمع بتمعن وحاول استيعاب كل كلمة، ثم طبقها على وضعك الحالي. بهذه الطريقة، يمكنك تحويل التعاطف الخارجي إلى لطف داخلي، وتقديم الدعم الذي تستحقه ذاتك.
الإنسانية المشتركة
فلنتيقن أن المعاناة جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، فالله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}، أي أن المصاعب والمحن جزء من اختبارنا في هذه الدنيا. ورحمة المؤمن بنفسه تقتضي إدراك أن كل البشر يمرون بتجارب مشابهة. فبدلًا من الشعور بالوحدة، لنتذكر قوله تعالى: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ“. هذا الشعور يمنحنا القوة والعزاء، ويجعلنا متحدين في الإنسانية.
التعاطف مع الذات يعني أن نعترف بأننا لسنا كاملين، وأن الأخطاء جزء من طبيعتنا. النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ“ (سنن الترمذي). هذا الحديث يذكرنا بأن الخطأ ليس نهاية الطريق، بل فرصة للتوبة والتقدم.
اليقظة
إنَّ التفكر والتدبر، وهما جوهر اليقظة الذهنية وتعني أن نكون حاضرين في اللحظة، واعين بمشاعرنا وأفكارنا دون دون إصدار أحكام أو انتقادات قاسية. النبي صلى الله عليه وسلم كان دائمًا يعلمنا أن نراقب أنفسنا ونفكر في أفعالنا. الله تعالى يقول: “إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا“ (الإسراء: 36). التفكر والتدبر أو اليقظة الذهنية تساعدنا على أن نكون أكثر وعيًا بذواتنا، مما يسهل علينا تنفيذ مفهوم التعاطف مع الذات والإنسانية المشتركة.
ولكي نكون رُحماء بأنفسنا ونتعاطف معها، يجب أولًا أن ندرك حقيقة ما نشعر به، وأن نتذكر أننا بشر نخطئ ونصيب. هذا الوعي يضفي على قلوبنا سكينة وهدوءًا، ويُبعدنا عن التوتر والقلق.
ولكي نمارس هذا التفكر، تخيل أن أفكارك ومشاعرك ما هي إلا غيوم عابرة في سماء ذهنك. لا تحاول الإمساك بها، ولا تغيير مسارها، ولا دفعها بعيدًا. ببساطة، راقبها وهي تظهر وتختفي، تمامًا كما يتبدل حال الدنيا. وإذا شعرت برغبة في التمعن في فكرة ما، فافعل ذلك برفق ولطف، كالمتدبر في آيات الله، دون تعصب أو تحيز.
حواجز ممارسة التعاطف مع الذات
إنّ مما يعيقنا عن التعاطف مع الذات، الميل إلى إنكار أخطائنا وتجنب مواجهة آلامنا، أو جلد الذات ونقدها بقسوة. هذه الأساليب الدفاعية تحول بيننا وبين تقبل ضعفنا البشري وممارسة التعاطف مع الذات.
كما أن هناك حاجز آخر يتمثل في المفاهيم الخاطئة لدى الناس بشأن التعاطف مع الذات. كثيراً ما نسمع الناس يقولون أن التعاطف مع الذات هو نوع من الأنانية أو التساهل، أو أنه يضعف العزيمة، أو أنه مجرد استسلام للشفقة على النفس، أو أنه تهرب من المسؤولية، لكن هذا غير صحيح. التعاطف مع الذات يعني أن نعترف بضعفنا ونطلب العون من الله. النبي صلى الله عليه وسلم قال: “احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ولَا تَعْجَزْ، وإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا كَانَ كَذَا وكَذَا، ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ، ومَا شَاءَ الله فَعَلَ“ (صحيح مسلم). هذا يعني أن نكون لطفاء مع أنفسنا دون أن نهمل مسؤولياتنا.
بل إن التعاطف مع الذات، في الحقيقة:
- يمدنا بالقوة والعون: فنصبح بذلك أكثر قدرة على الإحسان لأنفسنا وللآخرين، وأكثر حضورًا وعطاءً في علاقاتنا.
- محفز للنمو والتعلم: فالنفس الرحيمة تسمح لنا بالتعلم من أخطائنا وتجاربنا، خاصة عندما لا تسير الأمور كما نرجو. أما القسوة وجلد الذات، فنادرًا ما تؤدي إلى تحسين حقيقي.
- يوسع مداركنا ويقلل من التركيز السلبي: فالتراحم مع الذات يعلمنا أن الكمال لله وحده، وأن كل ابن آدم خطّاء. وبدلًا من الانشغال بالعيوب، يسمح لنا برؤية أنفسنا بمنظور شامل، نتقبل فيه نقاط قوتنا وضعفنا.
- يمنحنا الشجاعة للاعتراف بالخطأ: فنواجه أخطاءنا بصدق أمام أنفسنا وأمام الناس، ونتحمل مسؤوليتها، ونسعى جاهدين لإصلاحها والتوبة عنها.
كما هو الحال مع أي مهارة جديدة، فإن التعاطف مع الذات يتطلب جهدًا وممارسة
في كل مرة يقدم لنا أحدهم نصحٌ حول أهمية الرأفة بالنفس وعدم جلدها، أجدني أوافق على أهمية التعاطف مع الذات، وأرى فيه منطقًا سليمًا. أشعر براحة وسكينة وتفاؤل خصوصا عندما أتدبر في معناه وكيف يمكن أن يساعدني على التعامل مع صعوبات الحياة. ولكن سرعان ما يتبدد هذا الوضوح، وأجد صعوبة في الحفاظ على هذا الشعور، وغالبًا ما أعود إلى طريقتي القديمة في لوم نفسي وتأنيبها.
الممارسات التي يمكنك القيام بها لتقوية التعاطف مع الذات والحفاظ عليه:
إراحة الجسد والروح
افعل شيئًا نافعًا يعيد إليك الهدوء والسكينة. قد يكون ذلك بتناول طعام صحي، أو أخذ قيلولة قصيرة، أو أداء ركعتين خاشعتين تقربًا إلى الله. فالصلاة راحة للقلب، وغذاء للروح.
حديث النفس الإيجابي
عندما تواجه صعوبة أو إخفاقًا، لاحظ كيف تحدث نفسك. بدلًا من النقد القاسي، حاول أن تتحدث إلى نفسك كما لو كنت تحدث صديقًا مقربًا. استخدم عبارات مثل: “هذا الأمر صعب، ولكني أبذل وسعي”، أو “كلنا نمر بأوقات عصيبة، وهذا ابتلاء من الله، وسأتعلم منه وأصبر”. تذكر قول الله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ“.
كتابة رسالة تراحم
اكتب رسالة إلى نفسك كما لو كنت تكتب لشخص عزيز عليك يعاني من نفس الموقف. عبّر عن تفهمك ودعمك، وذكّر نفسك بأن الأخطاء جزء من التجربة الإنسانية، وأن الله يغفر الذنوب ويتوب على من تاب. اقرأ هذه الرسالة عندما تشعر بالحاجة إلى تعزيز التراحم مع ذاتك.
تمرين الدعاء الخاشع
اجلس في مكان هادئ، خذ نفسًا عميقًا، وركز على مشاعرك الحالية. استشعر قرب الله منك، وتذكر نعمه عليك. قل لنفسك عبارات مثل: “أسأل الله أن يلهمني الصبر واللطف مع نفسي”، “أسأل الله أن يرزقني القبول والرضا بما قدر لي”، “أسأل الله أن يمن عليّ بالسعادة والطمأنينة”. كرر هذه العبارات ببطء مع التركيز على مشاعر التراحم والراحة.
استشعار الإنسانية المشتركة
تذكر أن جميع البشر يخطئون ويواجهون صعوبات، وأن الكمال لله وحده. قل لنفسك: “لست وحدي في هذا الشعور”، أو “هذا جزء من طبيعتي البشرية”. حاول أن ترى تجاربك كجزء من التجربة الإنسانية العامة بدلًا من اعتبارها فشلًا شخصيًا. تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون“.
تذكر أسماء الله الحسنى
تدبّر في معاني أسماء الله الحسنى، مثل الرحمن الرحيم، الغفور الودود. استشعر سعة رحمة الله وعفوه، وتذكر أن الله يحب المُتراحمين، ويحثّنا على أن نكون رحماء بأنفسنا وبالآخرين. فإذا كنت رحيمًا بنفسك، متفهمًا لضعفها ونقصها، مقدرًا لجهدها وسعيها، يصبح بإمكتنك بناء علاقة متعاطفة مع نفسك.
تحديد وتحدي الأفكار السلبية
لاحظ الأفكار السلبية التي تظهر عندما تقسو على نفسك. اسأل نفسك: “هل هذه أفكارٌ صحيحة؟”، “هل يمكن أن أقول هذا لشخص آخر؟”. استبدل الأفكار السلبية بأخرى أكثر إيجابية وتفاؤلًا، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “تفاءلوا خيرًا تجدوه“.
ممارسة الامتنان والشكر
اكتب قائمة بالنعم التي أنعم الله بها عليك، سواء كانت نعمًا ظاهرة أو باطنة، كبيرة أو صغيرة. ركّز على الجوانب الإيجابية في حياتك، واحمد الله عليها. قل لنفسك: “أنا أحمد الله على نعمة الصحة والعافية”، أو “أنا شاكر لله على وجود أحبائي في حياتي”. تذكر قول الله تعالى: “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ“.
التخيل الإيجابي
تخيل أنك شخص تحبه يحتاج إلى الحب والرعاية. تخيل أنك تعانق هذا الشخص وتقول له: “لا تحزن، أنت في حفظ الله ورعايته”، “أنا أحبك وأدعمك”. ثم انقل هذا الشعور بالحب والقبول إلى نفسك.
تخصيص وقت للعناية بالروح والجسد
خصص وقتًا يوميًا لفعل شيء يجعلك تشعر بالراحة والسعادة والرضا. سواء كان المشي في الطبيعة، أو الجلوس مع العائلة والأصدقاء أو قراءة القرآن، أو الاستماع إلى تلاوة عطرة. ذكّر نفسك أنك تستحق هذا الوقت والاهتمام، وأن العناية بالنفس هي جزء من الحفاظ على الأمانة التي حملك الله إياها.
التفكر في التقدم
في نهاية كل يوم، فكّر في اللحظات التي كنت فيها رحيمًا ولطيفًا مع نفسك. احمد الله على الخطوات الصغيرة التي تقوم بها نحو تعزيز التراحم مع الذات. قل لنفسك: “أنا أتعلم وأتحسن، وهذا بفضل الله وتوفيقه”. تذكر أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
مواضيع ذات صلة:
- تهدئة الذات: إستراتيجيات تنظيم المشاعر وإتقان فن تهدئة النفس
- كيفية تطوير الذكاء: دليل شامل في مجال تطوير القدرات الإدراكية
- تطوير مهارات التفكير النقدي: استراتيجيات مجربة لتعزيز مهارات التفكير النقدي
- كيفية تحسين مهارات التحليل باستخدام الألعاب الذهنية
هذه التمارين تساعدك على تطوير عقلية أكثر تعاطفًا مع نفسك، مما يعزز صحتك النفسية ويقلل من حدة النقد الذاتي. ويبقى المفتاح هو الممارسة المنتظمة والصبر على نفسك أثناء الرحلة.