جاءت عقيدة التوحيد لكسر الأغلال التي تكبل النفوس والعقول والأجساد، وتحرر الإنسان من استعباد أخيه الإنسان تحت أي مبرر أو شعار. ” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ” (157). فمنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى تحرير العقل البشري من سلطان الهوى والغرائز، ومن العادات والتقاليد التي تستعبده من دون الله، ويعمل على أن يكون الانسان حرًّا في معتقده وفكره وتعبُّده. “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”. (أخرجه الإمام أحمد).
ولذلك لم يأت الإسلام بالرق ولم يأمر به، رغم أن الرق كان نظاما سائدا في العالم قبل مجيء الإسلام، بل كان أساس الإنتاج الاقتصادي حينها، إلا أن شرائع الإسلام جاءت محفزة على العتق والقضاء التدريجي على الرق ومنابعه. فالتوحيد دعوة للحرية الحسية والمعنوية، وللتحرير الشامل عقيدة وفكرا وسلوكا.
التوحيد يلغي الخرافة ويمنع تسلط الانسان على أخيه الانسان
قوة الإيمان بوحدانية الله وإلغاء الوساطة
فعندما يؤمن الانسان بوحدانية الله الخالق المدبر للكون فإنه يكسب بذلك قوة مطلقة لا حدود لها. فهو يؤمن أن الله هو الخالق الرازق، يحيي ويميت، بيده النفع والضر، عليم بذات الصدور، يجيب المضطر إذا دعاه في كل حال وحين، دون شفيع أو وسيط كائنا من كان. الأمر الذي يحول دون تسلط غيره عليه أو استغلاله بأي شكل من الأشكال وتحت أي غطاء أو ذريعة من الذرائع ولو باسم الدين. لذلك فإن إلغاء الواسطة بكل أشكالها بين الله والإنسان هي ثمرة من أعظم ثمرات عقيدة التوحيد. قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”. فلا وساطة بين العبد وربه، ولا وجود لرجال الدين الوسطاء في الإسلام.
عقيدة التوحيد واليقين في قدرة الله
وعندما يوحد المرء ربه فإنه يعتقد اعتقادا جازما أنه لا مؤثر غير الله في الكون. ولا يقع شيء في هذا الكون إلا بإذن الله. وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي قال عن نفسه وهو أصدق القائلين: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه.”سورة الطلاق وقال:” فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين” آل عمران. وقال:” ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. ” آل عمران. فلا أثر للكواكب أو الأشباح أو الأرواح أو غير ذلك. ومن اعتقد ذلك يصبح عقله مستعدا لقبول كل خرافة، وتصديق كل دجال. وبهذا تروج في المجتمع بضاعة الكهنة والعرافين والسحرة والمنجمين وأشباههم ممن يدعون معرفة الغيب، والاتصال بالقوى الخفية في الوجود.
عقيدة التوحيد ورفض الممارسات الخرافية
فنجد من الناس من أتى ساحرا يبْحثُ عنده عن العلاجِ لمرض ابتلاه الله به!!. وآخر يبحث عن مال ضَاعَ له عند كاهن يدعي علم الغيب!!. وآخر يريدُ سفرا فيستفسر ساحرا أخير هو أم شر!!. ورابعٌ يقصد الكهوف والدجالين طلباً للذُّريةِ!!. وأخرى تطلبُ الزوج من ضريح في العراء…!. فيشيع بذلك في المجتمع إهمال العمل بالأسباب والسنن الكونية، والاتكال على التمائم والرقى الشركية والسحر والطيرة وغير ذلك. ولو وحدوا الله حق توحيده لما فعلوا ذلك. إنه لا يجتمع التوحيد والخرافة في قلب واحد أبدا، كما لا يجتمع النور والظلمات والظل والحرور.
التوحيد يحرر الانسان من سلطان الغرائز والشهوات.
الإسلام وتوجيه الغرائز
ان الإسلام لا يلغي الغرائز والشهوات، بل يهذبها ويوجهها الى الوجهة الصحيحة حفاظا لها وعليها من الطغيان والانحراف. ولهذا فقد أحاط الإسلام حرية الإنسان بسياج من الحدود والضَّوابط. فلا يتعرَّض أحدٌ لأحد بأذى؛ لا في بدنه، ولا عِرضه، ولا دينه، ولا ماله، ولا امتِهان لكرامته بأي شكل مِن الأشكال.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾. الإسراء: 70. لأن الحرية لا تؤتي ثمارها المرجوَّة إلا إذا مورست بشكلٍ صحيحٍ، فلا تتعارض مع الأحكام التي نصَّ عليها الدينُ. ولا مع الأخلاق التي بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أجْل إتمامها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينةٍ فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ مَن فوقنا؟!. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”؛ متفق عليه.
الحرية الحقيقية في إطار الخضوع لله
إن الحرية المطلقة لا وجود لها في هذا العالم. وإلا تحولت المجتمعات إلى غابة تضيع فيها الحقوق، وتعم فيها الفوضى، وتتعارض فيها المقاصد والمصالح. فيكون البقاء للأقوى، القادر على سلب حريات الآخرين وانتزاع ما بأيديهم ونهب حقوقهم. فتقييد الحرية ليس نفيا لها، وإنما تركها على إطلاقها دون ضابط أو قيد هو القضاء عليها والنفي الحقيقي لها.
ان الحُرية الحقيقية ليست في الخضوع التام للغرائز والشهوات والركض خلفها والانغِماس فيها دون حسيب أو رقيب، حتى يصير الإنسان عبدًا لها ومقيدًا بها. الأمر الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ” تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ.” بل إنَّ الحرية الحقيقية هي الخضوع لله – عز وجل واتِّباع أوامره واجتناب نواهيه. فالإسلام هو مصدر الحرية الحقيقية التي لا استعباد فيها، ولا ذل معها. لأن الإنسان لا يَبلُغ قمة الحرية وحقيقتها إلا عندما يكون عبدًا لله تعالى خاضِعًا له وحده دون غيره.
التحرر من الطغيان والعبودية في ضل عقيدة التوحيد
ان التوحيد الخالص لا يمكن أن يتعايش مع أي نوع من أنواع الطغيان والاستعباد. بل إن الإسلام لا يمكن ممارسته على الوجه الأكمل في ظل العبودية والخضوع لغير الله تعالى من مخلوقاته. وفي ظل خضوع الانسان لشهواته وغرائزه. ولا في ظل وجود الوسائط البشرية بين الله عز وجل وبين عباده. وهذا ما يكشف التحرر الحقيقي للإنسان من كافة الأغلال و القيود التي تعيق إرادته وفكره وجسمه وروحه وذلك بالتوحيد والخضوع للخالق وحده.
ولله در الإمام ابن القيم رحمه الله إذ يقول في كتابه الوابل الصيب:
“فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة. بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين. وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة عينه بالله عز وجل. فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات”.