في ثنايا القرآن الكريم وروائعه العظيمة، تتجلى قصص الأنبياء كمنارات مضيئة للحق والحكمة، وتعكس القدرة اللامحدودة للخالق سبحانه وتعالى. ومن بين هذه القصص تبرز قصة عزير عليه السلام، كواحدة من أجمل القصص التي تبين لنا عظمة القدرة الإلهية على إحياء الموتى وإعادة البعث.
قصة عزير عليه السلام وبداية الأحداث
قصة عزير عليه السلام وكيف أماته الله وأحياه
فتح عينيه ظاناً أنه نام ساعة أو ساعتين، لأن الشمس لم تغب بالنسبة له، لا زالت الشمس في كبد السماء. فجاءه ملك يسأله، “قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ” كم نمت؟، “قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ ” لا أنا ما أكملت يوماً، جئت أول النهار، واستيقظت قبل أن ينتهي النهار.” إذاً حتى يوم واحد ما أكملته. لكن الغريب أنه بحث عن حماره فلم يجده. فتساءل: أين الحمار؟ أين اختفى وقد ربطته؟ رأى آثار الحبل موجودة فقال: “سبحان الله، ما الذي حدث؟” رأى تراباً وعظاماً بالية مكان هذا الحمار.
معجزة الطعام الذي لم يفسد
استغرب الرجل، نمت ساعة أو ساعتين، يختفي الحمار، وأين اختفى؟ لا أجد مكانه إلا عظاماً بالية. الأمر غريب أليس كذلك؟ لكن الذي شككه أكثر أن الطعام لا زال على حاله، هذا يجعل الشخص يتأكد أنه ما نام إلا كم ساعة، الطعام موجود والحمار اختفى. فقال له الملَك: “بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ.” الصدمة كبيرة للإنسان عندما يقول له أحدهم: “ترى أنت نائم لمائة سنة.” الإنسان الآن عندما يغمى عليه ويدخلونه المستشفى، ويقولون له: “أنت نائم، من أسبوع” لا يصدق الأمر. لكن مائة سنة وبلا سبب. “قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ”
المعجزة أنك نمت مائة سنة وطعامك لم يتغير، “الطعام لو يوم واحد يتغير.” العنب يتخمر، والتين يفسد في يوم أو يومين إلى ثلاثة أيام. لكن مائة سنة وظل على حاله، هذه معجزة من عند الله سبحانه وتعالى. طيب والحمار؟ أين ذهب حماري؟ (انظروا ما الذي حدث) “وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ“.
المعجزة الإلهية في إحياء الحمار
هذا الحمار سيكون آية لك وآية لمن بعدك. كيف؟ انظر إلى الحمار ماذا سيفعل الله عز وجل به. أرأيته رمادًا، ترابًا، فتاتًا؟ هذه العظام البالية بدأت تتجمع أمام عيني عزير عليه السلام، بدأت العظام تتشكل، تجمع الفتات، فتكون العظم الأول والعظم الثاني والثالث حتى تكونت العظام كلها. فتركب كل عظم مكانه حتى إكتملت، وبدأ اللحم يكسو هذه العظام الشرايين. الأوردة واللحم حتى تكون لحم الحمار كله، ثم تكون الجلد عليه، ثم الشعر، فنفخ فيه الله عز وجل الروح. ثم قام الحمار من مكانه ينهق، يظن أن الساعة قد قامت. “وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ“.
ألم تقل يا عزير: كيف يحيي الله هذه بعد موتها؟ كيف يحيي الله هذه الأرض؟ أرأيت يا عزير كيف أحيا الله هذا الحمار، هكذا يحيي الله عز وجل الأرض. وهكذا يحيي الله عز وجل كل ميت. هل رأيت يا عزير قدرة الله عز وجل في الإحياء؟. نعم، هذه قدرة الله يا عزير. لا يعجزه شيء. ربنا جل وعلا كما أبقى الطعام يبقي ما يشاء، وكما أمات الحمار يميت من يشاء، وكما أحيا الحمار، يحيي الله عز وجل ما يشاء، وكما ماتت هذه القرية، أحياها الله عز وجل مرة أخرى. “فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ“.
قصة عزير عليه السلام وعودته إلى القرية بعد مائة عام
بعدها قام عزير عليه السلام وركب حماره وأراد أن يدخل مرة أخرى إلى قريته ليعود ليشاهد بعد مائة سنة ما الذي حدث وما الذي جرى. الآن قد تبدل الجيل بعد جيل، أكثر الناس ماتت. فركب الحمار ورجع مرة أخرى، رأى الزروع والأرض التي أحياها الله والثمار التي طابت. دخل إلى القرية وتوجه إلى مكان بيته القديم، منذ مائة سنة، طبعاً البنيان تغير والبلاد تغيرت، ولم يعد أحد يعرفه.
قصة عزير عليه السلام والمرأة العجوز
لما إقترب من البيت رأى امرأة عجوز عمرها مائة وعشرين سنة عمياء جالسة عند البيت، (الآن هو يبحث عن الكبار الذين بقوا). فذهب إليها فسلم عليها (هذه العجوز تدرون كم عمرها؟ مائة وعشرين سنة عمر هذه العجوز، وكان عمرها عندما اختفى عزير عشرين سنة).
فسألها عزير: أين بيت عزير؟ قالت: ولماذا تسأل عن عزير؟ فقال لها: عزير عليه السلام، قال: أنا عزير. قالت: ماذا؟ قال: أنا عزير. قالت: يا رجل، قل شيئاً غير هذا، عزير نبي الله اختفى منذ مائة سنة (كانت هذه جارية عنده، كانت تعمل عنده في قصره وفي بيته) قال: لها بل أنا عزير. قالت: “إن كنت عزيرًا، فإن عزيرًا كان يبرئ الأكمه والأعمى، كان يدعو الله فيشفيه، (كانت عنده هذه المعجزة). فإن كنت عزيرًا، فادعُ الله عز وجل أن يرد لي عيني.” فدعا الله عز وجل، وإذا بالعجوز تبصر مرة أخرى. فلما أبصرت العجوز، نظرت إليه فعلمت أنه عزير. “الله أكبر” قالت: أنت عزير. لم تكن لتخطئه هذه المرأة.
قصة عزير عليه السلام ولقائه بقومه
وبعد أن عرفت أنه عزير، قالت له: تعال معي إلى الناس. فمشى وراءها لتذهب إلى قومها وعلية القوم، لتخبرهم أن عزيراً قد أعاده الله جل وعلا مرة أخرى. فأخذته إلى رجال قومها الذين كانوا في مجلسهم. وكان هناك ولد من أبناء عزير قد عمر مائة سنة كان للتو مولوداً قبل إختفاء عزير. فجاءت العجوز وقالت للناس: “هذا عزير”، فما من أحد شهد (صدَّقه) إلا العجوز. قالت لهم: هذا نبي الله الذي اختفى منذ مائة سنة، عاد الآن مرة أخرى.
ما صدقها الناس، وما يُدريهم أنه عزير؟ قال: “والله أنا عزير، أنا نبي الله”. قالوا له: التوراة قد فقدت، إن كنت عزيراً فأرجع لنا التوراة مرة أخرى، (وكان عزير عليه السلام قد أخفى التوراة في الأرض، أخفاها في مكان قبل أن يأتي الأعداء فيحرقوها) قال: “أرجعها”، فذهب إلى الأرض التي دفن فيها التوراة. قال: “احفروا هنا”، فلما حفروا وجدوا التوراة قد دُرست، اكلتها الارض. ماذا سيفعل الآن؟ فألقى الله عز وجل في قلبه التوراة فاخذ يتكلم بالتوراة وهم يكتبونها. حتى كتبوا التوراة مرة أخرى.
فلما كتبوا التوراة آمنوا به وعلموا أنه عزير، لكنهم للأسف بالغوا فيه أكثر. حتى كفروا بالله وقالوا إنه ابن لله جل وعلا. “وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ.” (سورة التوبة – الآية 30).
هذه قصة عزير عليه السلام. الله عز وجل أراد أن يبين لنا قدرته جل وعلا، فما من شيء على الله ببعيد. لا تقولوا إن الأرض دمرت، صعب أن تحيا، قل يحييها الله عز وجل. يحيي أرضاً ميتة ويميت أرضاً حية، يحيي قلوباً ويميت قلوباً، الله جل وعلا قادر على كل شيء.
قصة إبراهيم الخليل وإحياء الطيور
قصة أخرى في إحياء الموتى، الله عز وجل ذكر هذه القصة في القرآن، قصة من قصة إبراهيم الخليل، إبراهيم عليه السلام. طلب من ربه طلباً، وكان إمام الموحدين والأنبياء الحنفاء، كسر الأصنام وهو فتى صغير لأنه يعبد الله وحده، موحد منذ صغره.
رغبة سيدنا إبراهيم معرفة كيف يحيي الله الموتى
هذا الرجل، وهذا الفتى، وهذا النبي الصالح وخليل الله، طلب من ربه طلباً، ما هو الطلب؟ “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى”. (سورة البقرة -الآية:260)
فسأله الله عز وجل: “قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ” هو مؤمن، لكنه يريد أن يرى كيفية الإحياء فقط، لأن درجات العلم تختلف. الإنسان يعلم الأمر سماعاً، سمعه فعلمه، أو يراه بعينه، عين اليقين، أو يلامسه فيصير حق اليقين. أراد إبراهيم الخليل أن يتطور في علمه وإيمانه، فيصل إلى درجة تسمى عين اليقين، (أرى الشيء بعيني). نحن نؤمن بالجنة، لكن عنما نراها تصير عين اليقين، وإذا دخلنا بإذن الله الجنة، صار حق اليقين.
استجابة الله سبحانه وتعالى لدعوة إبراهيم
ولهذا، أراد الله جل وعلا أن يُظهر لإبراهيم الخليل عليه السلام كيف يحيي الموتى. فقال: “يا إبراهيم، “فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ” أحظر أربعة من الطيور واذبحها، ثم قطعها. يعني، أربعة طيور، قطع ريشها وجلدها ومنقارها ورجليها وأجنحتها، واخلط أجزاءها ببعض. تخيل إلى أي درجة ستكون هذه الطيور الأربعة مخلوطة الأجزاء. “فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ“، قطعها واخلطها. ثم ماذا تفعل؟ خذ قليلاً من كل جزء مخلوط من الطيور وضعه في جبل من الجبال البعيدة، (وزعها على الجبال) “ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا“. فعل إبراهيم ذلك، أحظَر أربعة طيور، قطَعها وخلطها معاً، دم وجلد ورجليها وريش، كل شيء، ووزعها على الجبال. ثم قال الله عز وجل: “ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ“، نادي هذه الطيور.
فنادى إبراهيم الخليل هذه الطيور. هل تعرفون ما الذي حصل؟ إبراهيم الخليل يرى الآن بعينيه. ما طلبه قد تحقق. هذه الريشة الواحدة كانت لذلك الطير على ذلك الجلد، تخرج الريشة وتعود إلى جلد الطير نفسه. وهذا المنقار لذلك الطير، فبدأت الأجزاء تتجمع، كل أجزاء الطيور جاءت بروحها تنتقل، هذه تذهب، وهذه تنتقل، حتى تجمعت أجزاء كل طير لوحدها، وبدأ الجسد يتكون. فلما اكتملت أجساد الطيور، إذا بالروح تنفخ فيها مرة أخرى، فبدأت الطيور تطير مرة أخرى، وتأتي إلى إبراهيم الخليل “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ“. نعم له العزة جل وعلا وله الحكمة تبارك وتعالى.
سبب ذكر الله قصة عزير وقصة إبراهيم الخليل عليهما السلام
لماذا ذكر الله قصة عزير وقصة إبراهيم الخليل في إحياء الموتى؟ لأن النمرود قال لإبراهيم كلمة. “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ ” (سورة البقرة – الآية: 258)
ماذا قال النمرود؟ “قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ ” وعندما قال تلك الكلمات، أراد الله عز وجل أن يبين للناس معنى إحياء الميت، فقص علينا قصة عزير عليه السلام وقصة الطير مع إبراهيم الخليل.
يمكنك القرائة أيضا:
سلسلة قصص الأنبياء 1 بداية الخلق وقصة سيدنا آدم للشيخ نبيل العوضي
سيرة الحبيب 1 أَيْن المَفَر والإلَه الطّالِب ؟ للشيخ سعيد الكملي
أهمية القصص القرآني ودوره في بناء الأجيال
استجابة الدعاء: شروط وأسباب استجابة الدعاء وموانعها
العبرة من قصة عزير وقصة إبراهيم الخليل عليهما السلام
كما يحيي الله عز وجل الأرض، يُحيي أيضًا البشر، ولهذا، في يوم القيامة يأمر الله عز وجل الملَك فينفخ في الصور، فيموت الناس جميعًا، ويتحلل كل جسد الإنسان، ولا يبقى منه إلا عظمة صغيرة، (عجب الذنب) وعند قيام الساعة، ينزل مطر على الأرض، فتُنبِت أجساد الناس مرة أخرى، فينفخ الله فيهم الروح، فيقومون للبعث والنشور. يقول الله: “كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ“، كما يحيي الله عز وجل القرى والأرض الميتة، يحيي أجساد الناس مرة أخرى.
هذه القصص لم يذكرها الله عز وجل إلا للفائدة والعبرة، ولنعلم أن الحياة والموت هما بيد الله وحده.