قصة مريم ابنة عمران (للشيخ نبيل العوضي🔗) هي واحدة من أكثر القصص إلهامًا وعمقًا في التراث الإسلامي. حياتها، التي تميزت بالفضل الإلهي والإيمان الراسخ والأحداث المعجزة، تعد مثالًا خالدًا للتقوى والعبادة والثقة في الله سبحانه وتعالى. تتناول هذه المقالة رحلتها، من نسبها الطاهر إلى دورها المحوري كأم النبي عيسى (عليه السلام)، والدروس التي يمكننا استخلاصها من حياتها الاستثنائية.
النسب الصالح لآل عمران
في مجتمع بني إسرائيل، كان هناك تباين صارخ بين الصالحين والكافرين. ومن بين الصالحين، اختار الله سبحانه وتعالى عائلة عمران، ورفعهم فوق العالمين. كما جاء في القرآن: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.” (آل عمران: 33-34). يسلط هذا الاختيار الإلهي الضوء على أهمية النسب ودور التقوى في نظر الله (سبحانه وتعالى).
كان عمران رجلاً تقياً، وأحد القادة الصالحين وكهنة عصره. أما زوجته فكانت عاقراً لا تلد. وفي يوم من الأيام، وبينما كانت تمشي، رأت طائراً يطعم صغاره، فاستحوذت عليها الرغبة في أن يكون لها ولد. فدعت الله عز وجل، وتعهدت إذا رزقت بولد أن تكرسه لخدمة بيت الله عز وجل في القدس. وكانت لحظة الشوق والدعاء هذه بمثابة تمهيد لحدث معجز سيغير مجرى التاريخ.
ميلاد مريم وتوكلها على الله
وفي الوقت المناسب حملت زوجة عمران وأنجبت طفلة أسمتها مريم. على الرغم من أنها كانت تتوقع ولدًا ليخدم بيت الله، حيث كانت العادة تقضي بتخصيص الأطفال الذكور لخدمة بيت الله (سبحانه وتعالى). ومع ذلك، أوفت بنذرها وقدمت مريم الصغيرة للكهنة، الذين تنافسوا بعد ذلك على تولي مسؤولية تربيتها وتعليمها. لم تكن هذه المنافسة من أجل الوصاية فحسب، بل كانت اعترافًا بالقدرة الإلهية التي تحملها مريم بداخلها.
لقد اختير النبي زكريا عليه السلام زوج خالة مريم ليكون وصياً عليها. حيث كان يتولى توفير احتياجاتها ويحرص على تربيتها في بيئة صالحة تقية، مكرسة لعبادة الله تعالى. لقد كان دور زكريا بالغ الأهمية، فهو لم يهتم فقط بتلبية احتياجاتها الجسدية، بل كذلك كان يغذي نموها الروحي أيضاً، ويغرس فيها قيم الإيمان والتقوى.
تربية مريم العجيبة وظهور الملائكة
وعندما كبرت مريم أظهرت صفات خارقة في العبادة والتقوى، فكان كلما زارها زكريا عليه السلام في محرابها يجدها تتزود بقوت خارج موسمه، مثل فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وكان هذا الرزق العجيب دليلاً واضحاً على فضل الله عليها. ولما سألها عن مصدر هذا الرزق قالت: “هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.” (آل عمران: 37).. وهذا التصريح يعكس إيمانها العميق وثقتها برزق الله، وهو درس لكل المؤمنين. في يوم من الأيام، بينما كانت مريم واقفة في الصلاة، أتاها الملائكة وقالوا: “يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.” (آل عمران: 42-43).
لقد شكلت هذه الرسالة الإلهية لحظة محورية في حياتها، وأكدت مكانتها كواحدة من أكثر النساء احتراماً في التاريخ. لقد اصطفى الله تعالى مريم وطهرها ورفعها فوق نساء العالمين، وأمرها الملائكة بالطاعة لربها والسجود والركوع مع المصلين، ولم يكن هذا النداء للعبادة مجرد أمر، بل كان اعترافاً بدورها الفريد في الخطة الإلهية.
قصة مريم ابنة عمران وحملها المعجز لعيسى (عليه السلام)
كانت مريم معروفة بتقواها وعفتها، ونادراً ما كانت تخرج من حرم بيت الله إلا لأمور ضرورية. وفي يوم من الأيام، وهي بعيدة عن الحرم، ظهر لها الملاك جبريل (عليه السلام) في صورة بشر، ففزعت منه واستعاذت بالله قائلة: “إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا“ (مريم: 18). وهذا الرد يوضح إدراكها لقدسية حالتها والتزامها بإيمانها.
ثم كشف جبريل (عليه السلام) عن هويته الحقيقية وأخبر مريم أن الله (سبحانه وتعالى) قد اختارها لتحمل ولدًا، سيُدعى عيسى (عليه السلام) وسيكون نبيًا وقائدًا وأحد أقرب الناس إلى الله (سبحانه وتعالى). كانت مريم في حيرة، حيث لم تتزوج قط ولم تكن مع رجل. فطمأنها جبريل (عليه السلام) قائلاً: “كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.“ (آل عمران: 47). يؤكد هذا البيان العميق على قدرة الله (سبحانه وتعالى) على إحداث المعجزات التي تتجاوز الفهم البشري.
ثم انصرفت مريم عن قومها إلى مكان بعيد، حيث ولدت عيسى عليه السلام. وحين عادت بالطفل اتهمها قومها بالزنا، ولكن عيسى عليه السلام تكلم من المهد، قائلًا: “إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّ.ا“ (مريم: 30). وهذا الدفاع المعجز لم يبرر مريم فحسب. بل أثبت أيضاً نبوة عيسى عليه السلام وطاعته لله عز وجل منذ لحظة ولادته.
معجزات عيسى عليه السلام ورسالة
- وُلِد عيسى عليه السلام من غير أب: خلقه الله تعالى من كلمة “كن” فكان، ونفخ فيه الروح، ، فكان ذلك دليلاً واضحاً على قدرة الله، ومعجزة تدل على صدق نبوته.
- لقد تكلم عيسى عليه السلام من المهد: فأعلن عبوديته لله تعالى ورسالته النبوية، وكانت هذه معجزة أخرى تؤكد نبوته.
- لقد كان لعيسى عليه السلام معجزات كثيرة: فقد شفى المرضى، وأحيا الموتى، وخلق الطير من الطين، كل ذلك بإذن الله تعالى، وكانت هذه المعجزات آيات للناس، تدعوهم إلى الإيمان والطاعة.
- رسالة عيسى عليه السلام: كانت رسالته دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، ورفض فكرة كونه ابن الله أو جزءًا من الثالوث. وأكد على دوره كعبدٍ لله ورسوله، يهدي البشرية إلى الحقيقة.
الدروس والعبر التي يمكن أن نتعلمها من قصة مريم ابنة عمران
إن قصة مريم (عليها السلام) دليل على قوة الإيمان والتقوى والطاعة لله تعالى. فقد اختارها الله تعالى لتحمل نبي الله عيسى (عليه السلام). كما أن حياتها مثال للمكافآت التي تأتي من تكريس الذات لعبادة الله تعالى وخدمته. إن إيمانها الثابت في مواجهة الشدائد والتزامها برسالتها الإلهية هي صفات يجب أن نطمح جميعًا إلى تجسيدها.
ومن أهم الدروس التي يمكن أن نتعلمها من قصة مريم (عليها السلام) ما يلي:
- أهمية الدعاء والتوكل على الله.: إن دعاء أم مريم الصادق وتوكلها على الله أدى إلى ولادة مريم التي كرست نفسها لخدمة بيت الله. وهذا يعلمنا أن صلواتنا يمكن أن تؤدي إلى نتائج معجزة عندما نضع توكلنا على الله.
- فضيلة التقوى والورع.: لقد اعترف الله تعالى بتقوى مريم وورعها وعفتها، فاختارها على سائر النساء، وكرمها بحمل النبي عيسى عليه السلام. وحياتها مثال لثواب الحياة الصالحة.
- قوة الصبر والثبات.: عندما واجهت مريم اتهام قومها، صمدت وصبرت، فتحدث ابنها عيسى (عليه السلام) دفاعاً عنها، مؤكداً على عفتها وطبيعة ولادته المعجزة. وهذا يعلمنا أهمية الثبات على معتقداتنا، حتى في مواجهة التحديات.
- أهمية الطاعة والاستسلام لله تعالى.: كانت طاعة مريم واستسلامها لإرادة الله تعالى محورية في حياتها وتحقيق دورها كأم لنبي. إن مثالها يشجعنا على الاستسلام لإرادة الله تعالى في حياتنا.
قصة مريم ابنة عمران (عليها السلام) تعلِّمنا التقوى والإيمان والطاعة لله (سبحانه وتعالى)، وتحفزنا على السعي إلى رضا الله تعالى في كل أعمالنا. كما تعتبر حياتها منارة أمل ومصدر إلهام لجميع المؤمنين، تذكرنا بأن كل شيء ممكن بالإيمان.
مواضيع ذات صلة:
سلسلة قصص الأنبياء 1 بداية الخلق وقصة سيدنا آدم للشيخ نبيل العوضي🔗
سيرة الحبيب 1 أَيْن المَفَر والإلَه الطّالِب ؟ للشيخ سعيد الكملي🔗
أهمية القصص القرآني ودوره في بناء الأجيال 🔗
استجابة الدعاء: شروط وأسباب استجابة الدعاء وموانعها🔗
خاتمة
إن قصة مريم ابنة عمران هي شهادة على رحمة الله وحكمته وقوته. فمنذ ولادتها المعجزة إلى دورها كأم للنبي عيسى (عليه السلام)، كانت حياة مريم مثالاً ساطعاً للمنح الربانية التي تأتي من تكريس الذات لعبادة الله وخدمته. ولا يزال إرثها يلهم الملايين في جميع أنحاء العالم، ويذكرنا بالقوة التي تأتي من الإيمان والتفاني.
فلتكن قصة مريم مصدر إلهام لنا لتعزيز علاقتنا بالخالق والعيش حياة ترضي الله.