لقد تم تأكيد العلاقة بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي والصحة من خلال العديد من الدراسات التي أجريت في مختلف أنحاء العالم. وقد أكدت جميع الدراسات التأثير العميق للوضع الاجتماعي والاقتصادي على الصحة، ومع ذلك، فإن الآلية وراء هذا الارتباط كانت موضع نقاش. ما هي الآثار الصحية للفقر؟ تشير الأبحاث إلى أن الفقر يرتبط بشكل وثيق بتدهور الصحة الجسدية والنفسية، مما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة والوفيات المبكرة.
ما هو الفقر؟
يمكن القول إن الأفراد والأسر داخل مجموعة سكانية معينة يعيشون في حالة فقر عندما يعجزون على تلبية احتياجاتهم الأساسية. مثل الحصول على نظام غذائي مناسب، والتمتع بالظروف المعيشية والموارد التي يتمتع بها غالبية المجتمع الذي ينتمون إليه. يعتبر الفقر، بهذا المعنى، حالة من الحرمان التي تعكس الفجوة بين مستوى معيشة الفرد أو الأسرة والمستوى المعتاد في المجتمع.
في الدول المتقدمة، يستخدم الحصول على إعانات الرعاية الاجتماعية المرتبطة بالدخل كمقياس رئيسي للفقر. تشمل هذه الإعانات برامج مثل إعانات الباحثين عن عمل، وإعانات الإسكان، بالإضافة إلى الائتمان الضريبي للعمل والائتمان الضريبي للأطفال. تعكس هذه البرامج مدى اعتماد الأسر على الدعم الحكومي لتلبية احتياجاتها الأساسية، مما يجعلها مؤشرًا على وضعها الاقتصادي.
أما في الدول النامية، فيتمثل مقياس الفقر في مدى اعتماد الأفراد والأسر على المساعدات الاجتماعية أو برامج الدعم التي تقدمها الحكومات أو المنظمات الدولية. تشمل هذه البرامج التحويلات النقدية المباشرة، وتوزيع المواد الغذائية الأساسية، وبرامج التغذية المدرسية للأطفال. فضلاً عن تقديم الخدمات الصحية المجانية أو المدعومة للأسر ذات الدخل المحدود. تعكس هذه البرامج حجم الحاجة إلى الدعم الخارجي لتلبية الاحتياجات الأساسية، مما يجعلها مؤشرًا على انتشار الفقر.
بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام المقاييس الموضوعية والذاتية للحرمان المادي كمؤشرات للفقر. تشمل هذه المقاييس القدرة على المشاركة في الاحتفالات الاجتماعية، وامتلاك الملابس المناسبة لجميع الأحوال الجوية، والقدرة على الذهاب في عطلة، والوصول إلى وسائل نقل مناسبة. تعكس هذه المؤشرات جوانب مختلفة من الحياة اليومية وتُظهر مدى قدرة الأفراد على التمتع بظروف معيشية مقبولة مقارنة ببقية المجتمع.
ما هي الآثار الصحية للفقر في ظل العوامل المؤثرة الأخرى؟
في عام 2000، حددت خطة العمل العالمية لمنظمة الصحة العالمية للوقاية من الأمراض غير المعدية ومكافحتها للفترة من 2013 إلى 2020 سبعة عوامل خطر رئيسية. وتشمل هذه العوامل:
- تعاطي الكحول.
- قلة النشاط البدني.
- تعاطي التبغ.
- ارتفاع ضغط الدم.
- الإفراط في تناول الملح أو الصوديوم.
- مرض السكري.
- السمنة.
تعرف هذه العوامل باسم “عوامل الخطر”، وتهدف منظمة الصحة العالمية من خلال استهدافها إلى خفض أسباب الوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض غير المعدية بنسبة 25% بحلول عام 2025.
وبالتوازي مع ذلك، كشفت مبادرة التعاون العالمي بشأن العبء العالمي للأمراض. وهي أكبر دراسة ترصد التغيرات الصحية على مستوى العالم، عن مجموعة من العوامل المرتبطة بزيادة عبء المرض والإصابة في 21 منطقة جغرافية. ومن بين هذه العوامل، تعد الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة من أقوى المؤشرات التي تتنبأ بالمرض على مستوى العالم. ومع ذلك، وعلى الرغم من تأثير الفقر الكبير على الصحة، إلا أنه لا يُعتبر عامل خطر قابل للتعديل في إطار هاتين الاستراتيجيتين الصحيتين العالميتين المهمتين.
مقارنة تأثير الفقر وعوامل الخطر على الصحة
وفقًا لدراسة نشرت في مجلة لانسيت والتي قامت بتنسيقها إمبريال كوليدج لندن. تبين أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي له تأثير كبير على الصحة مماثل لتأثير “عوامل الخطر” المعروفة. حيث يرتبط الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض بانخفاض متوسط العمر المتوقع بمقدار 2.1 سنة. وهذا رقم قريب من التأثير الناتج عن عدم النشاط البدني، الذي يقدَّر أنه يسبب انخفاضًا في متوسط العمر المتوقع بمقدار 2.4 سنة.
يشير الوضع الاجتماعي والاقتصادي إلى مقياس يحدد مكانة الفرد أو الأسرة الاقتصادية والاجتماعية مقارنة ببقية المجتمع. ويتم تقييمه عادةً بناءً على عوامل مثل الدخل، مستوى التعليم، ونوعية المهنة. وعلى الرغم من أن هذه العوامل معروفة بتأثيرها المستقل على الصحة، إلا أن الدراسات المبكرة لم تقارن بشكل مباشر بين تأثير الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض وتأثير عوامل الخطر الصحية الرئيسية الأخرى.
واللافت للنظر أن سياسات الصحة العالمية غالبًا ما تتجاهل عوامل الخطر الاجتماعية والاقتصادية، عند تقييمها للنتائج الصحية أو أثناء وضع الاستراتيجيات الوقائية. وهذا يشير إلى حاجة ملحة لطرح هذا التساؤل “ما هي الآثار الصحية للفقر؟” ولإدراج هذه العوامل في سياسات الصحة العامة لتحقيق فهم أكثر شمولًا لتحديات الصحة العالمية.
الفقر كعامل خطر رئيسي
في دراسة شملت استطلاع آراء 1.7 مليون شخص من دول مختلفة، قام الباحثون بمقارنة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأفراد مع مجموعة من عوامل الخطر الصحية. بما في ذلك:
- تعاطي التبغ.
- النظام الغذائي غير الصحي.
- الخمول البدني.
- إدمان الكحول.
حيث وجد الباحثون أن الأفراد الذين يتمتعون بوضع اجتماعي واقتصادي منخفض كانوا أكثر عرضة لأسباب الوفاة المبكرة بنسبة 46% مقارنة بنظرائهم الأكثر ثراءً.
تم تقييم تأثير عوامل الخطر المختلفة من خلال حساب عدد السنوات المفقودة من العمر المتوقع. وتبين أن التدخين ومرض السكري كانا من أكبر العوامل المساهمة في فقدان السنوات. حيث أديا إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع بمقدار 4.8 سنوات و3.9 سنوات على التوالي. بينما ارتبطت عوامل أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم، والسمنة، والإفراط في استهلاك الكحول بفقدان عدد أقل من السنوات، حيث بلغت 1.6 سنة، و0.7 سنة، و0.5 سنة على التوالي.
وأكدت نتائج هذه الدراسة على أهمية اعتبار الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض عامل خطر رئيسيًا يجب استهدافه إلى جانب عوامل الخطر الصحية التقليدية، في الاستراتيجيات الصحية العالمية والوطنية. وذلك بهدف تقليل أسباب الوفاة المبكرة وتحسين النتائج الصحية على نطاق واسع.
ما هي الآثار الصحية للفقر؟
يعتبر الفقر أحد العوامل الرئيسية التي تؤثر على صحة الأفراد في جميع مراحل حياتهم. كما أنه يلعب دورًا كبيرًا في تحديد متوسط العمر المتوقع. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، لوحظ أن متوسط العمر المتوقع بين عامي 2009 و2013 كان أعلى بنحو 7.9 سنة للرجال و5.9 سنة للنساء في المناطق الأكثر ثراءً مقارنة بالمناطق الأقل ثراءً.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت الدراسات أن الفترة بين عامي 1999 و2010 شهدت انخفاضًا في متوسط العمر المتوقع في العديد من المناطق حول العالم التي تتميز بارتفاع نسبة الأفراد الذين يعتمدون على الحد الأدنى من الأجور أو الذين لا يحصلون على أي دخل على الإطلاق. هذه النتائج تظهر بوضوح كيف أن الظروف الاقتصادية الصعبة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المشكلات الصحية وتقليل متوسط العمر المتوقع.
وبشكل عام، تؤكد هذه البيانات على التأثير العميق للفقر على الصحة العامة. كما أن هذه البيانات تظهر الحاجة إلى سياسات اجتماعية واقتصادية تعالج الفجوات الصحية بين المناطق الأكثر ثراءً وتلك الأكثر فقرًا.
الفقر في الطفولة
يُظهر الفقر تأثيره السلبي على صحة الأطفال حتى قبل ولادتهم. حيث كشفت دراسة استقصائية أجرتها الكلية الملكية لطب الأطفال وصحة الطفل بالتعاون مع مجموعة العمل لمكافحة فقر الأطفال أن ثلثي الأطباء الذين شملهم الاستطلاع أكدوا أن الفقر في المناطق ذات الدخل المنخفض كان سببًا رئيسيًا في تدهور صحة الأطفال الذين تعاملوا معهم.
ومن بين النتائج المثيرة للقلق، وجد أن الأطفال المولودين في المناطق الأكثر حرمانًا يزنون في المتوسط أقل بنحو 200 جرام مقارنة بأولئك المولودين في المناطق الأكثر ثراءً. هذا الفرق في الوزن عند الولادة يمكن أن يكون له تأثيرات طويلة الأمد على التطور المعرفي والصحي للطفل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأطفال الذين يعيشون في فقر هم أكثر عرضة للتغذية بالزجاجة بدلاً من الرضاعة الطبيعية. حيث أظهرت البيانات أن 73% من النساء في المناطق الأكثر حرمانًا يبدأن الرضاعة الطبيعية، مقارنة بـ 89% من النساء في المناطق الأقل حرمانًا.
هذه الفجوات الصحية تظهر كيف أن الفقر يؤثر سلبًا على حياة الأطفال. مما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لتدخلات سياسية واجتماعية تعالج هذه التفاوتات وتدعم الأسر الفقيرة لضمان بداية صحية وعادلة لجميع الأطفال.
ما هي الآثار الصحية للفقر؟ جسديا ونفسيا
كما أن الفقر يعتبر عامل خطر رئيسي يؤثر سلبًا على صحة الأطفال منذ الولادة وحتى مراحل حياتهم اللاحقة. فالأطفال الذين يولدون في أسر فقيرة هم أكثر عرضة للإصابة بأمراض مزمنة مثل الربو، بالإضافة إلى مشاكل صحية مرتبطة بالنظام الغذائي، مثل تسوس الأسنان، سوء التغذية، السكري، والسمنة. وفقًا لتقرير صادر عن هيئة الخدمات الصحية الوطنية يتضح أن الأطفال الفقراء يكونون أكثر عرضة للإصابة بالسمنة بمقدار الضعف مقارنة بأقرانهم الأثرياء. وبحلول سن الحادية عشرة، كان 26% من الأطفال الفقراء يعانون من السمنة، مقارنة بـ 11.7% فقط من الأطفال الأغنياء.
ولا يقتصر تأثير الفقر على الصحة البدنية فقط، بل يمتد ليشمل الصحة النفسية أيضًا. حيث أظهرت الدراسات أن الأطفال الذين ينشأون في أسر فقيرة أكثر عرضة بثلاث مرات للمشاكل النفسية مقارنة بأقرانهم من الأسر الثرية. كما أن ارتفاع مستويات الفقر بين الأطفال يرتبط بشكل مباشر بتأثيرات سلبية على النتائج العاطفية، الاجتماعية، الإدراكية، والتنموية.
هذه الآثار السلبية لا تختفي مع مرور الوقت، بل تترك أثرًا طويل الأمد على حياة الأفراد. فالأطفال الذين ينشأون في فقر هم أكثر عرضة للمعاناة من ضعف الصحة النفسية والجسدية في مرحلة البلوغ. مما يزيد من خطر إصابتهم بأمراض خطيرة ومزمنة تهدد حياتهم. وقد أظهرت الدراسات الطولية أن الأطفال الذين يعيشون في فقر معرضون بشكل أكبر لأسباب الوفات عند الكبر. بما في ذلك الوفاة بسبب السرطان، أمراض القلب والأوعية الدموية، والوفيات المرتبطة باستهلاك الكحول.
وبشكل عام، يُظهر هذا التأثير العميق للفقر على الصحة مدى الحاجة الملحة لتدخلات سياسية واجتماعية تعالج التفاوتات الصحية وتوفر فرصًا أفضل للأطفال الذين ينشأون في ظروف اقتصادية صعبة، وذلك لضمان مستقبل صحي وعادل لهم.
يمكنك القرائة أيضا: الصحة عند الأطفال: العوامل التي تؤثر عليها، وأفضل الأساليب لتعزيزها
ما هي الآثار الصحية للفقر؟في فترة البلوغ
يعد تفشي الأمراض المزمنة أكثر انتشارًا بين البالغين من ذوي الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة. وتشمل هذه الأمراض مرض السكري، مرض الانسداد الرئوي المزمن، التهاب المفاصل، وارتفاع ضغط الدم. ففي إحدى الدراسات، لوحظ أن 40% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و64 عامًا ويعيشون بدخل أقل من المتوسط يعانون من أمراض مزمنة. وهي نسبة تعادل ضعف معدل انتشار هذه الأمراض بين البالغين من نفس الفئة العمرية الذين يحصلون على دخل أعلى من المتوسط.
يمكنك القرائة أيضا: مقاومة الأنسولين عن طريق العنصر الغذائي رقم 1 وفقًا لخبراء التغذية
ولا تقتصر تأثيرات الفقر على الصحة الجسدية فقط، بل تمتد لتشمل الصحة النفسية أيضًا. فقد وجدت مؤسسة الصحة النفسية أن ثلاثة أرباع الأشخاص الذين يعيشون في الفئة الأقل دخلًا أبلغوا عن تجارب تتعلق بسوء الصحة النفسية، مقارنة بستة من كل عشرة في الفئة الأكبر دخلًا. بالإضافة إلى ذلك، يرتبط الفقر، البطالة، والاستبعاد الاجتماعي بزيادة حالات الفصام ومعدلات الإلتحاق بالرعاية النفسية المتخصصة.
يمكنك القرائة أيضا: العلاج السلوكي المعرفي وكيفية تطبيق تقنياته لتحسين الصحة النفسية
هذه التفاوتات الصحية تظهر الحاجة الملحة إلى تدخلات وسياسات منهجية قائمة على الأدلة للحد من الفجوات الصحية. وتعد الاستراتيجيات التي تدمج تعزيز نمط الحياة في سياسات الصحة واحدة من الطرق الفعالة لتحسين الصحة العامة. خاصة بين السكان الذين يعيشون في المناطق الأكثر حرمانًا أو في ظروف الفقر. ومن خلال معالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في تفاقم المشكلات الصحية، يمكن تحقيق تحسينات كبيرة في النتائج الصحية على مستوى المجتمع.